بقلم/ حسين سالم باربود
ماليزيا 15 أبريل2019
هل الموهبة فطريّة أم مكتسبة؟! سؤال حيّر الكثير من علماء النفس, فعمدوا إلى إجراء العديد من الدراسات التتبعية والتجارب العلمية لكي يصلوا إلى تفسير دقيق لماهية الموهبة, وهل هي فطريّة؟ بمعنى توجد ضمن التركيبة السيكلوجية (النفسية) للإنسان منذ ولادته, أم هي مكتسبة من البيئة التي يعيش فيها, وطبيعة النشاط الذي يمارسه؟ ورغم وضع العلماء للعديد من النظريات, وإجراء الدراسات في مجال الموهبة; إلا أن هذا السؤال لم يزالوا فيه بين أخذ ورد. قد يتساءل القارئ عن الجدوى المرجوة من الإجابة عليه! فأقول: إن لإجابة هذا السؤال أثرٌ كبيرٌ في تصميم منهجية مناسبة لرعاية الموهبة, بدءاً من اكتشافها, ثم رعايتها, وانتهاء بتوظيفها في خدمة المجتمع.
إن ما دعاني للكتابة في هذا الموضوع هي نظرية العشرة آلاف ساعة لـ مالكولم جلادويل 2009 Malcolm Gladwell والتي مفادها: “أن الفرد يحتاج لعشرة آلاف ساعة من التدريب ليصبح خبيراً في أي مجال كان”. حيث بنى جلادويل نظريته هذه معتمداً على تجربة اندريس أريكسون 1993 Anders Ericsson أحد المتخصصين في الجانب النفسي للموهبة والأداء الإنساني. حيث أجرى الأخير تجربة على مجموعة من عازفي الآلة الموسيقية “الكمان” من جامعة برلين للفنون. اكتشفت التجربة أن العازفين كانوا على ثلاثة مستويات, عازفة النخبة والتي قضت 7,410 ساعة تدريب منفرد منذ الصغر حتى سن 18 سنة. بينما قضت العازفة الممتازة 5301 ساعة, أما العازفة الجيّدة قضت 3420 ساعة وذلك انطبق على كلَي الجنسين المشاركين في التجربة. ومن تلك التجربة توصل جلادويل لنظريته هذه وقدّر عدد الساعات بعشرة آلاف ساعة كمتوسط يجب أن يقضيها الفرد في التدريب على أي مجال يرغب أن يصبح خبيراً فيه.
ورغم قلة عيّنة التجربة التي بُنيت على أساسها هذه النظرية إلا أنها سرعان ما انتشرت, وأصبح الكثير من المهتمين ينظر لنتائجها كحقيقة مؤكدة دون الانتباه لنوع الموهبة وحجم العيّنة! ولكن ما لبثت أن واجهت النظرية العديد من الانتقادات فيما بعد. ومن الدراسات التي توصلت إلى نتائج تضعّف من شأن نظرية جلادويل, دراسة تحليلية حديثة -إلى حدّ ما- لـ ماكنامارا وآخرين نُشرت في عام 2014 حيث هدفت إلى تحليل كل الدراسات التي درست تأثير التدريب على الأداء والاحترافية في بعض المجالات الأدائية. وجدت هذه الدراسة أن التدريب المهدف يحقق نسبة 26% من تحسن أداء الفرد وذلك في مجال الألعاب, و21% من أداء الفرد في مجال الموسيقى, و18% في مجال الرياضة, و4% في مجال التربية. واستنتجت الدراسة أن التدريب المهدف مهم ولكنه ليس بالمستوى الذي أوصلته بعض الدراسات أو النظريات التي جعلت امكانية أن يصبح الفرد موهوبا أو خبيراً في مجال ما لمجرد التدرب عليه لآلاف الساعات دون وضع اعتبار لأي جوانب أخرى.
للأسف الشديد, توجد بعض الدراسات التي حاولت أن تثبت أن الموهبة مكتسبة فقط وتعتمد في تعميمها هذا على تجارب أقيمت على ما يُسمى بالمواهب الأدائية مثل: الموسيقى, والرياضة, والرسم وغيرها. إلا أنها لا تجرؤ على اسقاط منظورها هذا على موهبة الذكاء العقلي, أو موهبة الصوت الجميل, على سبيل المثال لا الحصر لأن هاتين الأخيرتين موهبتين فطريتين بامتياز. قد يكون تجاوزها لذلك بعمد حيث يصعب على الفرد متوسط الذكاء بالفطرة أن يرتقي بذكائه إلى مستوى ذكاء خارق حتى وإن حاول تدريب عقله آلاف الساعات على حل أسئلة الذكاء العقلي, أو حل المسائل الرياضية المعقدة. وكذلك هو الحال مع صاحب الصوت الخشن, فمن الصعوبة بمكان أن يحوّل صوته من خشن مزعج إلى صوت شجي من خلال التدريب لساعات عديدة ليصل به إلى مستوى منافس لأصوات أشهر المنشدين والفنانين. لا يُفهمُ من كلامنا هذا أننا نقلل من شأن الاهتمام بالمواهب المكتسبة من خلال توفير البيئة المناسبة لرعايتها, أومن خلال تدريبها, وصقلها حتى يصل صاحبها إلى أعلى مستويات الأداء فيها, بل العكس من ذلك تماماً. وإنما هي دعوة إلى عدم إلغاء أهمية الجانب الفطري في بعض المواهب.
ومن خلال ما سبق, نستطيع القول أن هناك بعض المواهب الفطرية التي لا يمكن لمن لم يُفطًر عليها أن يحققها بالتدريب, طالت مدة ذلك التدريب أم قصرت, كموهبة الذكاء الخارق والصوت الجميل كما أسلفنا, إنما هي هبة من الله جلا وعلا يهبها لمن يشاء. وفي المقابل, هناك بعض المواهب التي يمكن للفرد أن يكتسبها بالتدريب, والمثابرة عليها لآلاف الساعات, حتى يصل بنفسه إلى أعلى مستويات الأداء فيها, وتلك هي المواهب الأدائية كالموسيقى والرياضة وغيرها. وختاماً يمكننا استنتاج أن الموهبة منها ما هو فطري سرعان ما ينمو في البيئة المناسبة, ومنها ما هو مكتسب, تُكتسب بالتدريب والمثابرة والإصرار.